تدوينات مختارة
يونس مسكين: نحن وأوربا.. ضربة الخوّاف!

يونس مسكين: صحافي وباحث
في غياب الحد الأدنى من الشفافية والوضوح بين السلطات المغربية ومواطنيها، يتطلب فهم حدث مثل الأزمة التي تمر بها العلاقات المغربية الأوربية حاليا، إلى ساعات طويلة من القراءة والتركيز والتركيب للخروج بفكرة متماسكة. لننظر كيف أننا وفي ظل هذه العاصفة من الصراخ و”الزعيق” بحسب تعبير وزير العدل عبد اللطيف وهبي، لم يخرج مسؤول مغربي واحد، أقول مسؤول وليس متطوع للصراخ وترديد الأسطوانات المشروخة، ليشرح لمواطنيه ماذا يحصل وكيف ولماذا.
بعد استبعاد الرواية الخرافية التي يتقاسمها المتطوعون للزعيق، والتي تقول إجمالا بأننا “محسودين” من طرف الأعداء لما نحققه من صعود خارق في سماء التنمية والقوة السياسية والاقتصادية، أعتقد شخصيا بالفرضية التالية:
الأزمة الحالية امتداد لأزمة عميقة تمر منها العلاقات المغربية الأوربية، بفعل محاولات المغرب، فعلا، التخلص من الوصاية الكاملة للقوى الاستعمارية الأوربية (بطريقة تفتقد الى أسباب النجاعة والنجاح)، وحرص هذه القوى الاوربية على إعادة المغرب إلى بيت الطاعة موظفة أوراقها الخاصة، لكن أيضا وأساسا، ما يقدّمه المغرب لخصومه من أوراق مجانية بارتكابه أخطاء فادحة ضد جبهته الداخلية، كمن يصوّب الرصاص نحو قدميه ويستغرب عجزه عن التقدم.
هذه الفرضية العامة تضيق أكثر عند محاولة فهم الاحداث الآنية والعثور على خيوطها المباشرة، ليصبح الأمر مرتبطا بفرضيات فرعية أساسية هي:
– قضية “بيغاسوس” وما أدراك ما بيغاسوس،
– ما يعرف بقضية قطر-غيت،
– التمرّد المفاجئ وغير المؤسس الذي قام به المغرب على حلفائه الأوربيين،
– اتساع الخرق الداخلي بإصرار الدولة على عدم إنهاء ملفات الاعتقال السياسي،
بالنسبة لقضية بيغاسوس:
الملف مفتوح على مصراعيه في الأجندة الأوربية ولم يغلق كما يعتقد بعضنا. لنترك قناعاتنا وموقفنا نحن ولنفكر من موقع الآخر، في النهاية أنا “مجرّد” مغربي ولا يهم كثيرا أن يبذل أحد مجهودا لإقناعي بالرواية الرسمية المغربية التي تنفي كليا أية علاقة بالبرمجية الإسرائيلية الخبيثة. لنعتبر أنني أسلم بهذه الرواية لأن الأمر لا يغير شيئا في الواقع سواء اقتنعت أم لم أقتنع. لكن الآخر، الأوربي، ينطلق من قناعة راسخة مفادها أن الدولة المغربية استعملت هذه البرمجية ضد مسؤولين أوربيين، وبشكل خاص المسؤولين الفرنسيين.
لننظر إلى الفلم الوثائقي الذي أنتجته “فرونتلاين” الأمريكية مؤخرا، لنتأكد من هذه القناعة الغربية. فعلى العكس من بلاغات النفي التي اكتفينا بها هنا، يظهر الفلم الوثائقي كيف أن القائمين على التحقيق في منظمة “فوربيدن ستوريز” عملوا على التأكد تقنيا من اختراق هواتف المسؤولين الفرنسيين، عبر بعث رسالة قصيرة إلى الرقم الهاتفي للرئيس ماكرون، للتأكد من أنه ما زال يستعمله، ليأتيهم اتصال من قصر الإلزيه بعد نحو ساعتين، أي أن الرقم صحيح. وفيما تعذر عليهم فحص هواتف الوزراء والمسؤولين الممارسين، تطوع وزير فرنسي سابق بتقديم هاتفه للمنظمة، لتتأكد بشكل قاطع أنه فعلا تعرض للاختراق، والمتهم: المغرب.
هذه القضية ليست هينة ولن تمر مرور الكرام، ورد الفعل الأوربي عليها لم يصدر بعد في تقديري، وما نشاهده الآن قد لا يعدو أن يكون سوى تسخينات. العقل الاستعماري الأوربي لن يتقبّل بسهولة ما يعتقد أنه تجرؤ مغربي يتجاوز ما هو “مسموح” به تحت سقف “الندية” المفترضة بينهم وبين مستعمراتهم السابقة (مجالات نفوذهم الحالية).
بالنسبة لقضية قطر-غيت:
هي قضية أخرى منفصلة لكنها في الوقت نفسه امتداد لمشكلة “بيغاسوس”، على اعتبار أنها قضية نفوذ ونشاط استخباراتيين، يعتقد الأوربيون أن المغرب تجاوز فيهما الحدود المسموحة فيهما وبات يحركهما ضدهم بدل أن يكتفي بتسخيرها لهم.
العلاقة مباشرة تظهر جلية من خلال اتهام أحد البرلمانيين الأوربيين المشتبه في تورطهم في القضية، بالاستماتة في الدفاع عن المغرب داخل اللجنة التي شكلها البرلمان الأوربي للتحقيق في قضية بيغاسوس. بل إن بعض الادعاءات الاوربية تتحدث عن مبالغ معينة تلقاها أعضاء البرلمان الأوربي مقابل كل تعديل يمس المغرب في التقرير النهائي للجنة، وإن كانوا يعتبرون تلك المبالغ هزيلة (يتحدثون عن 50 ألف أورو عن كل تعديل يتم إسقاطه).
بعيدا عن أي خطاب أخلاقوي أو تصيّد للأخطاء، شخصيا لا أعتبر أيا من القضيتين، بيغاسوس وقطر-غير، سلوكا خاطئا من جانب السلطات المغربية إذا نظرنا إليها من زاوية المصالح الخارجية. الأوربيون هم أساتذة العالم في مجال شراء الولاءات ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة في الوصول إلى الأغراض التي يريدونها خارج حدود بلدانهم. لكن مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة يقتضي تحمّل تبعات افتضاح أو فشل مثل هذه الأساليب وترتيب النتائج الضرورية عليها من إعفاء ومساءلة وتغيير في أنماط التدبير.
ملف القضية يعود إلى يوليوز الماضي، حين قامت الاستخبارات البلجيكية بإحالته على القضاء (صاحب الاختصاص بشأن مؤسسات الاتحاد الأوربي)، متهمة أعضاء في البرلمان الأوربي بتلقي أموال من دول غير أوربية تسعى إلى التأثير على السياسات الأوربية. ومنذ ذلك الحين تخيّم سحابة من التوتر الصامت على العلاقات المغربية الأوربية (البلجيكية)، مع تلميح بعض الصحف الاوربية إلى مساءلة المسؤول الأول عن الاستخبارات الخارجية المغربية ياسين المنصوري في هذه القضية.
في هذا السياق جاء مشهد حضور الثلاثي المغربي المنصوري-الحموشي-بوريطة في الملعب خلال مباراة المغرب وكندا في نهائيات كأس العالم قطر 2022. الرسالة المباشرة التي يمكن قراءتها في تلك الصورة هو توفير الدولة المغربية الحماية الكاملة لمسؤوليها وعدم استعدادها السماح بالمساس بأي منهم.
بالنسبة للتمرّد المفاجئ للمغرب على حلفائه الأوربيين:
عقب التوقيع على الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولايات المتحدة الامريكية وإسرائيل، عرفت لوحة القيادة الأوربية اشتعال المصابيح الحمراء خوفا من تبعات هدا الاتفاق على مصالحهم الاقتصادية والأمنية مع المغرب. وفي الوقت الذي يقتضي العقل والكياسة طمأنة هذه المخاوف، على اعتبار أن الامر يتعلق بحلفاء راسخين للدولة المغربية، ودول قادرة على إيذاء المغرب في العمق لما راكمته من نفوذ ومعرفة جيدة بالنظام السياسي المغربي؛ انتهجت الرباط أسلوب “الفعفعة” ضد الأوربيين، وصدر عنها سلوك مفاجئ وغير ومعتاد، خاصة ضد ألمانيا وإسبانيا، ونسبيا فرنسا.
العقل الأوربي (الغربي عموما) ينزع إلى الفهم والتحليل والتخطيط، عكس العقل الشرقي الذي يندفع ويقدم على رد الفعل قبل أن يستكمل عملية الفهم والتحليل أو يفكر في التخطيط. وما جرى هو أن المغرب “تبورد” على هذه الدول الاوربية، بعد حشر كل منها في زاوية ضيقة وضربها في واحدة من مصالحها الحيوية. شخصيا كنت أتمنى ان تكون بلادي قادرة على انتهاج هذا الأسلوب والذهاب فيه بعيدا وتدبير تبعاته، لكن الواقع لا ينقاد دائما للأحلام والآمال.
خيار الاستهداف المنفرد والمعزول لكل دولة أوربية على حدة ومطالبتها بتنازلات، بعضها في ملفات صغيرة وبعضها الآخر في ملفات استراتيجية كبرى مثل ملف الصحراء؛ (هذا الخيار)، سوف يدفع الاوربيين إلى وضع خطة مضادة تحرم المغرب من هذه المواجهة المنفردة، وتضعه في مواجهة شاملة مع أوربا، وهم يدركون جيدا أن هذه الخطة تحرم المغرب من هامش المناورة وتسديد الضربات من جهة، وتضعه أمام تهديد استراتيجي كبير يمس مصالحه الحيوية، وبالتالي حمله على الخضوع.
أذكر شخصيا خلال تلك المعارك الغامضة والمريبة، كيف كانت أبواق التبرير والتغرير تنشط بشكل استثنائي لتسوّق للمغاربة صورة دولتهم وقد أصبحت قوة دولية تُخضع الكبار تباعا وتفرض كلمتها على العالم. وأذكر أيضا كيف كانت أصوات التحذير من تبعات هذا السلوك وعدم الاغترار بصفقة “التدبير المفوض” التي يروّج لها البعض، على اعتبار أن المغرب وضع مصالحه تحت حماية المظلة الأمريكية-الإسرائيلية، بينما واشنطن منشغلة في الواقع بقضايا وملفات أكبر وأهم بالنسبة إليها، وإسرائيل محكومة مسبقا بمنطقها الذي يعتبر المحيط العربي الإسلامي، القريب والبعيد، تهديدا ينبغي إضعافه واختراقه وتفكيكه.
هكذا وبدلا من ترصيد المكاسب التاريخية التي حققناها مع الاوربيين، وتهدئة مخاوفهم وتجنيبنا معارك مجانية معهم في انتظار تحقيق التحول المأمول في بنية علاقاتنا الخارجية، قمنا بإفزاعهم وتخويفهم بما لا نملك من عناصر القوة، والنتيجة ما يطلق عليه المثل المغربي وصف “ضربة الخواف” التي يوجهها لنا الاوربيون اليوم.
بالنسبة لاتساع الخرق الداخلي:
كل ما سلف من ملفات ومواضيع، بيغاسوس وشبهات اختراق البرلمان الأوربي والتمرد المغربي (المشروع مبدئيا) على القوى الاوربية؛ ما كان ليعتبر أكثر من مجرد أخطاء في التدبير وتصريف القرارات مع إمكانية التصحيح والمراجعة، لولا الخطأ القاتل الذي قام وما زال يقوم به المغرب، والمتمثل في إضعاف الجبهة الداخلية وتجريد الدولة من عناصر المناعة والقدرة على التحمل وصدّ المؤامرات الأجنبية…
موضوع بيغاسوس لم يكن ليستعمل كورقة ضغط على المغرب، بصرف النظر عن صحة الاتهام بحيازته واستعماله، لو لم تقدم الدولة المغربية ما يكفي من مؤشرات على استهدافها لمواطنيها، من صحافيين ونشطاء وأكاديميين، بأساليب مشابهة. فأول ثقب يفتحه الغزاة في جدران الدول المستهدفة، كما يؤكد ذلك التاريخ، هو نزع الشرعية عن النظام أو إضعافها من خلال اتهامه باستهداف مواطنيه. لهذا تعتبر الديمقراطية وسمو القانون وحماية الأفراد من الشطط والتعسف، أول خط دفاع يحمي السيادة الوطنية.
وعندما تصبح الإرادة الشعبية مستباحة وعرضة للتلاعب، والمؤسسات التمثيلية والدستورية المكلفة بحماية الحقوق والحريات، مفتقدة لأي أساس فعلي وعملي من الشرعية والاضطلاع بمهامها الحقيقية، يصبح من السهل والبديهي توجيه الاتهام باستهداف “العالم الحر” في أغلى وأهم ما يملك، أي ديمقراطيته ومؤسساته، وهنا تجد قضية قطر-غيت التي تتحول تدريجيا إلى مغرب-غيت، كامل شرعيتها كأداة للاستهداف والإيذاء. في سياق آخر يتسم بفعلية دستور 2011 واضطلاع المؤسسات الوطنية بمهامها الكبرى في حماية وصيانة الحقوق، كانت مثل هذه القضية لتعتبر مجرد “خطأ” تدبيري، كما تفعل الديمقراطيات الكبرى.
الخلاصة:
الاستهداف والتآمر الأجنبي على المغرب ليس اكتشافا جديدا ولا مقولة مبتكرة تستطيع أن تبهر العقول وتمنعنا من التفكير والتأمل. هذا واقع نعيشه منذ قرنين على الأقل ولن ينتهي لا حاضرا ولا مستقبلا، لأن الدولة الوطنية الحديثة، آخر ابتكار بشري في مجال العيش المشترك، بقدر ما تنزع إلى الاستقرار والامن داخليا، تميل إلى الصراع والمواجهة خارجيا.
ما يحصل لنا حاليا، وتتهامس به الكثير من النخب الاكاديمية والسياسية في ظل جو الخوف الذي انتشر وسيطر، هو تفكيك وإضعاف الدولة المغربية مع التغطية على ذلك بمقولات تردد عكس ذلك. الإصرار على بقاء مجموعة صغيرة، لحسن الحظ، من المواطنين المظلومين، تحت خط الإنصاف، هو حرص غير مفهوم على إبقاء حجارة مؤلمة في حذاء المغرب. وهذا العرض المغري الذي تشتريه الدولة المغربية، والمتمثل في الهيمنة الشاملة على عقول وجيوب المغاربة، هو أكبر لغم داخلي ينبغي التخلص منه في أقرب وقت قبل أن يفنجر ويحوّلنا إلى أشلاء، لا قدّر الله.