تدوينات مختارة
وداد أزداد: دراما امتحان الكفاءة المهنية

65
/ 100
وداد أزداد: طبيبة مختصة في الأشعة ومدونة
سأحكي لكم الظروف الدرامية التي كادت تحول بيني وبين اجتياز امتحان الإقامة (التخصص)، لكي يفهم كل ممتحَن أنه ليس الوحيد الذي يمر بوضع صعب ولايستسلم بذلك لليأس بسهولة.. فما نيل المطالب بالتمني…
كانت المدة الزمنية بين مناقشتي لأطروحة الدكتوراة في الطب وموعد الامتحان قصيرة ولا تتعدى الشهرين، في الوقت الذي أعرف أناسا تطلب منهم الأمر أكثر من سنة من التحضير (للإقامة أو امتحان الداخلية المتشابهين في المنهج) بسبب طول المقرر الذي يبدو استيعابه مستحيلا..
ولكنني بذلت قصارى جهدي مترنحة مابين الحماس والسخط ومابين الأمل واليأس.. ومضى الوقت كالسهم حتى لم يتبق سوى يومين للامتحان كنت سأخصصها للمراجعة الأخيرة التي تعتبر الأهم كما تعلمون جميعا لأنها تثبت المعلومات، فلولاها لتبددت المعارف التي ذاكرناها كالسراب..
دخلت الحمام في تلك الليلة لأخذ دش دافئ عندما رن الجرس، سمعت أمي تهتف “الله أكبر” بصوت عالي، فظننت أن مكروها لحق بأختي في الخارج، فلففت نفسي بفوطة وخرجت مذعورة..
تبين أن أمي كانت تصلي وأنها كبٌرت لكي يسمعها الطارق وينتظر.. ولكنني لم أنتبه للنوافذ المفتوحة على مصراعيها ولا لتيار الهواء القوي الناجم..
راجعت الأسئلة قليلا وذهبت للنوم مبكرا، حيث كان ينبغي على السفر إلى الرباط في الغد، استعدادا لاجتياز الامتحان في اليوم الذي يليه.. نمت على جانبي الأيمن، ثم أردت أن أنقلب للجانب الآخر، فإذا بي لا أستطيع الحراك قيد أنملة وظللت ساكنة متوجعة بين الوضعين..
لقد تشنجت عضلات ظهري فجأة، حتى أصبح عمودي الفقري كالزجاج.. خفت أن أمد رجلي فيتكسر شيء ما أو أصاب بالشلل.. كان الألم المفاجئ لا يطاق حتى حسبت أنني لن أعاود المشي أبدا، وأنا التي لم أعان يوما من آلام الظهر..
مددت يدي للموبايل واتصلت بأمي رغم أننا نتواجد في نفس المنزل حيث استحال القيام.. وجمت لمرآي في ذلك الحال، ولكنني لم أستطع التظاهر بأنني بخير.. أشرتُ لها بأن تحضر لي بعض مضادات الالتهاب والألم دون نتيجة.. بعد قليل طلبت منها أن تحضر “الكورتيكوييد”.. كان الوضع مستعصيا ولابد من استعمال أدوية من العيار الثقيل حتى لو كان من المتوقع أن تؤذيني.. كان من اللازم أن أنهض ولو بمعجزة !
ذهبت أمي للنوم (أما أبي فكان مسافرا)… بعد ساعة، تمكنت من تحريك رجلي، فقررت أن أقف رغم الألم وألا أساير جسمي الموجوع، فعليٌ السفر في الصباح الباكر ويجب أن أحضره لذلك..
وقفت بأعجوبة، فإذا بألم يخترق دماغي انطلاقا من ظهري كالبرق.. سقطت مغشيا علي على الزربية وهمت في عوالم مظلمة.. وجدتني أمي على الأرض وساعدتني على الرجوع للفراش كما لو كنت عجوزا تسعينية..
في اليوم الموالي، اضطررت للنهوض قصد السفر، بينما كان قلق أمي يزداد من ألا أتمكن من اجتياز الامتحان.. أغمي علي مرة أخرى بسبب الألم في الحمام فجرح ذقني، بعد ذلك تحاملت على نفسي وجررت جسدي إلى غاية غرفة والديٌ ثم سقطت على الفراش على وجهي..
عندما أفقت كانت أمي وأختي تصفعانني بشكل هستيري، هتفت: “ماذا يقع ؟ ماذا هنالك؟”.. أجابتني والدتي معاتبة: “تسألينني عما وقع وأنت كدت توقفين قلبنا.. لقد ظننا أنك فارقت الحياة”.. ثم أضافت: “لاتكرري ذلك، لقد كانت عيناك مفتوحتين، وكنت قبيحة جدا وأنت ميتة”.. ههه شكرا ماما !!
ابتسمت ابتسامة شاحبة بعدما اعتذرت عن الخوف الذي تسببت لها فيه من دون قصد..
بذلت مجهودا خرافيا من أجل ارتداء الملابس.. تناولت أدوية أكثر من اللازم ووضعت حزاما حول وسطي ليدفئ ظهري.. كان احتمال اجتيازي للامتحان مبنيا للمجهول، وأي ألم إضافي كان سيضع حدا لهذه التكهنات وبأبشع طريقة..
رافقتني أمي في القطار، وكانت تساعدني على الصعود والنزول كما لو كانت حفيدة ترعى جدتها..
لم أراجع للامتحان جيدا كما كان مفترضا في الليلتين الأخيرتين..
صحبتني أمي لكلية الطب لاجتياز الاختبار وهي تسند كتفي، ولم تكن تظن بتاتا أنني قد أنجح..
ولكنني ولله الحمد أبليت حسنا بالنظر للظروف، واحتللت مرتبة جيدة رغم هذا الطارئ الذي كاد يعصف بحلم التخصص، وبالتالي كانت كل الخيارات متاحة أمامي بفضل الله، فاخترت طب الأشعة من بين كل الاختصاصات الطبية الأخرى ولا أندم على ذلك..
لكي تعلموا أن الطالب لا يحضر ولا يجتاز الامتحان لوحده بل تكون وراءه أسرة بكاملها ضحت بالكثير من أجله.. وأن أي حرمان له من نجاح مستحق عدوانا وظلما هو بمثابة جناية ضد كل أفرادها..
تخيلوا إذن لو كان أحدهم سرق مكاني بعد كل ذلك العذاب.. ألا يعتبر ذلك غشا محرما وقتلا معنويا وجريمة في حق الإنسانية وقطع طريق وسرقة موصوفة ؟
الطريف أو المحزن بالأحرى، أن زميلة لوالدتي كانت قد أسرٌت لها في وقت سابق بأن ابنتيها ماعليهما سوى اجتياز سنوات الطب الخمس الأولى ومن ثم ستمكنهما عمتهما من النجاح في مباراة الداخلية بكلية الطب من دون مشاكل، فالنجاح سيكون مضمونا..
ظلت أمي مشدوهة حينها، فالأمر لايبعث على الفخر أولا، ثم كيف يجتاز البعض الامتحان دون أن يكتبوا كلمة واحدة ثم يُمرٌَرون كالشعرة وسط العجين بسبب المحسوبية.. بينما ينبغي على آخرين مواجهة الأهوال وسهر الليالي الطوال والبكاء بدموع من دم قصد التحضير، ليأتي مدلل غشاش فيما بعد فيأخذ مكانهم في المباريات بكل بساطة وأريحية ؟!!
بالفعل عانينا نحن وأسرنا خلال مشوارنا الجامعي، وأنا شخصيا عندما كنت أحضر لامتحاناتي كنت لا أتحمل أن تتحرك ولو ذبابة في المنزل.. ولكن ماذا عن الطلبة المعوزين الذين يجب عليهم التحضير لامتحاناتهم ولمبارياتهم ببطون فارغة إلا من طعام رديء، وهم يعلمون أن أي تأخير في التوظيف أو النجاح سيشكل عبئا إضافيا وغير محتمل لعائلاتهم، وربما دفعهم ذلك للتخلي تماما عن هذا الأمل والاتجاه للاشتغال كيفما اتفق كبائعين متجولين أو سائقين أو أجراء رغم ديبلوماتهم فيضيع جهدهم سدى بسبب الفساد ..
لن نحتاج لنخبر الله بأي شيء فهو يرى من عليائه كل مايحدث ولكن هذا لا يكفي.. فلا بد من وضع حد للممارسات المشينة المفضوحة التي طالت امتحان أهلية المحاماة وغيرها ومحاسبة مرتكبيها، قبل أن يتم الإجهاز كليا على أحلام البسطاء ولا يتبقى لهؤلاء سوى خيار الهجرة والهجرة فقط كما لو كنا لاجئين في وطننا..