تدوينات مختارة
عدنان: الوفاة المفجعة لأحمد جواد تفضح هشاشة القطاع الفني والمسرحي في بلادنا

61
/ 100
ياسين عدنان: كاتب وإعلامي
لَكَمْ يُحزنني أن أتقاسم معكم اليوم المقالة أدناه. ستلاحظون أنّ قسوة الواقع بدّدت تماما تلك الروح المتفائلة التي ختمتُ بها المقالة القديمة التي كتبتُها منذ سنوات عن صديقي الفنّان المسرحي الرّاحل أحمد جواد. واليوم، أبى جواد إلّا أن يصدمنا جميعا وهو يُضرم النار في جسده الهشّ هناك بالرباط. مشهد فاجع يفضح هشاشة القطاع الفنّي والمسرحي في بلادنا، مثلما يفضح عطبا مرعبا في التواصل ما بين الجهات الوصيّة على هذا القطاع وعموم المُنتسبين إليه.
رحم الله أحمد جواد. فقدتُ فيه أخًا وصديقًا. وفقدنا فيه جميعًا فاعلًا ثقافيًّا أعطى الكثير من داخل نادي الأسرة الذي صنع منه خلال سنوات طويلة واحدًا من أهمّ الأندية الثقافية الوطنية.
كنت أتمنّى لو استثمر جواد في المسرح أكثر ممّا فعل. فقد رحل اليوم وأغلبكم لا يعرفه، وقلّة منكم فقط شاهدوه على خشبة المسرح. كنت أتمنّى لو اجتهد جواد أكثر في مجال أعرف مقدار عشقه له. كنتُ أتمنّى أيضًا لو كان أكثر لباقة وأقل حدّة في علاقته مع محيطه المهني والفنّي. ثمّ كنتُ أتمنّى أخيرًا لو تمَّت دعوتُه من طرف وزارة الثقافة لحضور حفل افتتاح مسرح محمد عفيفي بالجديدة. فالتاريخ يذكر أنّ الرّجل ناضل بشراسة لكي لا يتعرّض هذا المسرح للهدم في زمنٍ غابر ولّى. وتغييبُه عن حضور هذا الحدث آلمه كثيرا، ولعله كان القطرة التي أفاضت الكأس… وأفاضت روحه مع الأسف.
رحم الله أخانا أحمد جواد وغفر له.
رحمك الله يا جواد، رغم أنك بإضرام النار في جسدك الهشّ قسوت على نفسك يا صديقي أكثر مما قسى عليك محيطك. رحمك الله يا صديقي.
نص المقالة القديمة التي كنت قد كتبتُها عن الراحل أحمد جواد وعن مسرحيته (درس في الحبّ):
حدث ذلك في زمن يبتعد بالتدريج. شاركتُ رفقة زملائي في جمعية الحياة المسرحية في الدورة الأولى من المهرجان المغاربي الأول لمسرح الهواة بمدينة الجديدة. قدّمنا مسرحية جميلة عن أبي ذر الغفاري وتُوّجنا بجائزة أحسن بحث مسرحي. حدث ذلك في أواخر الثمانينيات، في زمن سابق على المسرح الجامعي و(ليزاداك). كان عنوان المسرحية (رحلة الرّجل الطيّب). لكن هناك في عاصمة دكالة التقيتُ رجلا طيّبا آخر، اسمه أحمد جواد. كان جواد متمرّدًا قلقًا. لذا لم أستغرب حينما غادر الجديدة فيما بعد بطريقة صاخبة و”طلع للرباط”. هناك سيجد جواد ذاته في نادي الأسرة التابع لمسرح محمد الخامس حيث وقَّع على حضور استثنائي لبضع سنوات نشَّط خلالها النادي بحيوية أذهلتنا جميعًا.
جواد اليوم ما يزال في مسرح محمد الخامس. موظف صغير في مسرح كبير. لكن قدرة هذا الموظف الصغير على العمل والتنظيم وأيضًا على الحلم والابتكار لا حدود لها. جواد هذه الأيام يشتغل على عرض مسرحي طريف. عمل من نوع خاص يصلح للعرض في المقاهي والصالونات والنوادي الصغيرة وحتى في جلسات السمر. لا يحتاج جواد في عرضه الفردي إلى خشبة ولا ديكور. يحتاج فقط سبّورة وقطعة طباشير ليقف أمام الجمهور ببذلة نظيفة وربطة عنق وجُذاذة في اليد. قلتُ له: لقد صرتَ معلمًا يقدّم درسًا، لا ممثلا فوق خشبة، فأجابني: هو كذلك. فعنوان العمل (درس في الحب).
والحصة لا تأخذ أكثر من ساعة واحدة. لكنها ساعة أخذت من وقت جواد الكثير. فقد جمع طرائفها ولطائفها، أشعارها ومحكياتها من مراجع عديدة: من (طوق الحمامة) لابن حزم وأغاني أبي الفرج ورسائل إخوان الصفا حتى (تزيين الأشواق) لداوود الأنطاكي و(أسد الغابة) لابن الأثير و(الشعر والشعراء) لابن قتيبة. دون أن ننسى القصائد والأزجال التي رصَّع بها درسه، ومن بينها قصائد من عيون شعر الحب العربي ومقاطع زجلية منتقاة بعناية من دواوين (غزيل البنات) لمراد القادري و(كناش مخ الصيكَان) لمحمد الزروالي.
في درسه المسرحي يحكي جواد قصة قيس ولبنى، وقصة عاتكة الغادة التي قُتِل كلُّ من تزوّجها، وكان قد تزوّجها على التوالي كل من عبد الله بن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، فالزبير بن العوام، ثم الحسين بن علي وقُتلوا جميعا وهي على ذمتهم. ويحكي أيضا قصة الرَّميلة أخت عبد المومن بن علي الكومي التي أحبها ابن غُرلة الزجال فبادلته حبًّا بحبّ، وكتب فيها إحدى أقدم الأزجال المغربية (قصيدة العروس)، لكن القصيدة سقطت بالصدفة بين يدي عبد المومن فقتله بسببها، وهكذا كان ابن غرلة الزجال أول شهيد حب في تاريخ الدولة المغربية.
علاقة أحمد جواد بالزجل لم تقف عند حدود (درس الحبّ) الذي وصل فيه ما انفصل بين ابن غُرلة ومراد القادري، بل تعدَّتهُ إلى عمل مسرحي جديد عنوانه (هو) يشتغل فيه جواد على نص زجلي للشاعر الزجال إدريس المسناوي. أعدّ جواد النص وسيتكفّل بإخراج هذا العمل الذي سيقدّمه مسرح (ياقوتة)، فيما سيتولى تشخيص أدواره كلٌّ من عبد الصمد مفتاح الخير، دنيا بوطازوت ومصطفى مزوار. جواد إذن سيبدأ ركضه. لن يكبو بالتأكيد. يذكر البعض أن هذا الدكالي الصعب المراس هدّد يومًا بإحراق نفسه أمام مسرح محمد الخامس. أمّا اليوم فيبدو أنه غيَّر رأيه. لعله يُفضّل أن يتوهج إبداعًا على أن يحترق. ونحن نتمنى له المزيد من التألق والاشتعال.