تدوينات مختارة

سعيد لمرابط: وأزفت.. “هجرة أخرى”

60 / 100
سعيد لمرابط: صحفي
“بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ
وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني
ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ”
المتنبي
لا زال جرس الخوف يستبد بخرائط الكلام، وشبح الغلق بعد الفتح بمفاتيح خشنة الأزيز؛ مخيمٌ كسيف الديموقليس على الرقاب… كما لا زال النشاز الممنهج يتسلق الحلق عله يحل محل نوتات الحرية، يغلق ثقوب الناي باستدارة اللقمة في أفواه الجياع..
ولا تزال الكلمة الحرة حلمًا لغرز الحرف أوتادا في الأرض، وأمنية لوثبة القلم نكايةً في فزاعات “المزرعة” المشيدة بأتبان الظلام والحديد..
وحتى ينقشع هذا الظلام، يسقط السيف من عليائه، ويتوقف هذا الجرس القميء عن القرع في الآذان خوفا؛ هي كما قال درويش، “هجرةٌ أُخرى إلى ما لستُ أَعرفُ”، فأنا لم أعتد الجبن، لا أعرف الخوف، ولست من أولئك الذين يهربون من المواجهة، كما أنني لست ممن يكتمون الحقيقة خوفًا من فقدان الرزق أو الحرية، فقد كنت دائما من المؤمنين بأن قول الحقيقة فرض وليس سنة، وأن الحياد والخوف وجهان لعملة واحدة، ولكني تعبت، تعبت من تقلص هوامش الحرية، من سواد الواقع الصحفي بالبلاد… تعبت من بلاد التكميم التي يديرها نظام متوحش، لا يرحم ولم يعد يسمح بمرور نسمة حرية… تعبت ولذلك غادرت!..
غادرت لأعيش راحتي النفسية، ولأجل راحة والدتي التي كلما سمعت أني كتبت تدوينة بسيطة دب الخوف في مفاصلها، وتخيلتني أقاد في الأصفاد، كما المرتين السابقتين!..
غادرت لأني من مدمني الكلمة، من عشاق الحبر، شابت في عشقهما أقلامي شجنا، حتى طوقت رأسي برشمات بيضاء، بكل نحافتي أندلق خلف الحبر غير المهادن، أقسمت ذات يوم أني مع الذين لا صوت لهم، صدى آهاتهم وتردد لصوتهم المبحوح، أنا مع حمرة الحرية لا أُقالُ ولا أستقيل، ولكني تعبت من قناطير البرسيم هاته، التي تريد فرض الصمت؛ على من يجيد الكلام الممنوع والمباح، تريد فرض الإتاوات على الماء وبيع العطش، لذلك اخترت المنفى لأني مؤمن حد العرفان أن “لا أبطال في الصحافة!”..
الصحافة جزء من وجودي المتعب وشكل آخر لوجدي المريح!، ميدان الشرف، وإذا بقيت يومًا واحدًا سأفقد شرف قلمي، سأفقده نزاهته، سأركب قارب جوق “العام زين”، وأجعل يراعي فيه مجدافًا لمآرب صاحب القارب، وسأرقص مع الجوق على كل الجراح، واحتسي الأنخاب على ركام النفوس وانكسار القلوب..
كلنا ندرك حجم المأساة والملهاة؛ ونعي أن البلاد ضاق صدر من يديرها، لم يعد له صبر على أي صوت نشاز يفكر بأن يقول “لا” في وجه كورال لا يردد في سوى صدى “نعم” الصادرة عنه، لتفرحه وترسم له البلاد قوس قزح مائز وجنات خضراوات..
إنه صدر يضيق حد الخنق، حتى لم يعد يمارس أخلاق الدولة، بقدر ما يتماهى مع عناد الصبيان؛ محولا البلاد إلى مساحة تزداد ضيقًا على من فيها بما رحبت!..
ولأننا ندرك ذلك، ولأني أدركه جدًا، أدركت ضرورة الابتعاد، ضرورة الولادة من جديد، ولادة من رحم منفى اختاري هربا من مستقبل مظلم وماضي أشد حلكة..
لقد عشت ما فات شابًا متصعلكًا، حلقت إلى مناط الثريا فرحًا غير آبه، وسقطت إلى غياهب الوجع السحيق، غير آبه أيضًا…
وبين الهنا والهناك، عشت إزدهار حكاية وذبول أخرى، سحبت جلد الأديم، استعرته وتدثرت به، ونقشت حروف إلياذتي على محياه، ترجمت لغة الأرض المتشققة وشفرت طلاسم الماء بالقدر الذي استطيع، فككت عني عقال القبيلة ولغز الحمية، وتلفعتُ بانسانيتي دراعةً تتسع لكل الأصوات ولثامًا يقيني روائح التزلف الكريهة؛ وكرامة ظللتني تحت شمس الوجود..
اسقطت عن ظهري صخرة العجز الكسيح، وصقلت حروفي بتيهي مخملي القسمات، عشت حياةً بها شيء من أوديسية كئيبة؛ عشقها الوبر على شمارخ طلح أرض الأحلام الثقيلة والكوابيس اللزجة..
لم أعش كمن يخاف ذكر الغول خوفا من أن يطلع له الغول، بل ركبت على قرن الغول، وتبولت على عيونه ملء مثانتي!..
ولست نادمًا أبدا على ثلاث عقود ونيف من العيش الطائش، المجنون الثمل بالهبل والجرأة..
ولكن ساعة الرحيل أزفت!..
وإذن، هي بداية طريق أخرى، وهي معالم لمجهول آخر دون علامات تشوير، وكأن لعنة ترحال البدوي خلف الغيمة الحبلى بالمطر، تلاحقني هيفاءً مقبلةً وعجزاء مدبرةً، تتوشح حمرة الحرية المعشقة بسواد الحبر!..
وها هو المنفى الاختياري بحثًا عن الحرية المنشودة، ربما هي هجرة اليائس المعذور خلف نوء الحياة، أو هو اللجوء القسري هربًا من خوفٍ مجهول، ينفتحون على مصراعيهم، ليعطوا في المحصلة عبارات مختلفة ستكون ختم الحزن الكظيم والحزن الكسيح..
فمهاجر، لاجىء أم منفي؛ سواسية، لأن الهجرة، المنفى واللجوء سيظلون ناقصين في عيني من حمل في حقائبه كآبة كثيبه معه ورحل، يحفظها في عينيه، في تجاويف قلبه وفي ثنايا مشاعره، ولكنه القدر، ربما هو قدري البدوي الذي يتناص مع محمود درويش “رَمْيَةُ نَرْدٍ على رُقْعَةٍ من ظلامْ؛ تشعُّ ، وقد لا تشعُّ”، أو ربما قدري الصحفي الذي يقع على قول غسان كنفاني، كما يقع الحافرُ على الحافر تماما، “نحن نستطيع أن نخدع كل شيء ما عدا أقدامنا، إننا لا نستطيع أن نقنعها بالوقوف على رقائق جليد هشة معلقة بالهواء”..
“هي هجرة أخرى”، فقد كان لابد من هجرةٍ “لينتصر الرسولُ”، ونحن الصحفيون البسطاء، رسل للحقيقة لا غير، عزل إلا من حريتنا، نثرنا صحفي مقدس، رغم أنه ليس “نثرٍ إلاهي”، ولكنه يحكي الحقيقة كما هو منوط به، والحقيقة الساطعة المزعجة ليست وحيًا بل واقع، نحطه بأقلامنا الجافة كرؤوسنا؛ وفي غير هذا نخون قدسية الصحافة، نموت أو ننخنق بهذا الدخان المخيم على رؤوسنا كظل لإله سلطوي، عنجهي، يمارس علينا ساديته بكل جبروت ممكن وغير ممكن..
لقد نجحت فزاعة السجن، وبعبع التشهير، في تحويل عيونٍ كانت ترمي بشرر الحق، إلى عيونٍ عاهراتٍ في ماخور صحفي صار أنتن من عطن البغايا..
عيونٌ صارت واهنة وهي منغرزة في الأرض ذليلة، عيون متحجرة جبنًا بعدما طوقتها تلك الهالة البنية، التي يخيل إليك حال رؤيتها؛ أنه طابع الذل ودمغة الإنبطاح..
صار القوم خوفًا يبيعون الوهم بدرهم، والسراب بدرهمين، يسقونك سخاءً من ظمأ الحسين في أقداح تشبه كل شيء إلا الصحافة، ويبشمونك زادًا من نار كربلاء علانيةً، وفي سكرة الخفاء يقرضون الشعر بقوافٍ بكرٍ وثيبٍ، تهجوا يزيدًا الذي يسرجون له الخيل عن الصحوة، ويقربون له مرابطها في دمشق..
حتى صارت التجارة حرفةً صحفية أصيلة؛ تجارة للمبادىء في سوق رائج، بيع للذمم علانيةً وشراء للذوات في واضحة النهار، تجارة تدفقت في العروق حتى صارت واحدةً منهم، وتماهت في المجالس حتى غدت نديمًا تأكل أكلنا وتلبس لباسنا، فها هي ذي هنا تتشح ورقًا لجريدة وهي معطرةٌ بالتزلف ولعق الأحذية، أو هي تي هناك تتلفع صفحات فضفاضة الكلام المتأتئِ، مطرزة المحتوى الذي خط بقلم رصاصٍ ذميم، يكتب كذبا ويمحوا بقفى ممحاته الحق بلا حمرة خجل..
هؤلاء أنا أخاف أن أكون منهم، وأخاف أن تستسلبني لعنة المال فأخون حرفي، أيضًا أخاف على أمي لوعة الفراق وعذاب الوقوف على أبواب السجون الشاهقة الموحشة والمتوحشة!، كذلك بعد كل هذا الزمن الصحفي لم أستطع أن أوفر لخبخابة التيه ما تستحقه غير التيه، سبع عجافٌ من الحب والمغامرة في قصة عشق لها وللصحافة وهي دومًا في ظهري حتى أني لم أستطع أن أكون في ظهرها، ولذلك أزفت الهجرة… وهي دومًا الموعدُ..
ولذلك.. هو الرحيل…!
هو الرحيل أو الهروب؛ لا أدري ولا أريد لأن معرفة الشيء مفزعةٌ، كل ما أعرفه أنها “هجرة أخرى”، ولست أكتب لا وصيتي الأخيرة ولا السلام، فـ”على قدر حلمك تتسع الأرض”، وحلمي كان وسيظل يناطح عنان السماء..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى