وجهات نظر

المروري: توفيق بوعشرين.. خمس سنوات.. فرصة للتفكير

1/ كلمة في القاضي والقضاء (التوطئة الأولى)

67 / 100

وجهات نظر

توفيق بوعشرين.. خمس سنوات .. فرصة للتفكير

 

عبد المولى المروري

 

كيف يجب التعامل مع الأحكام القضائية، خاصة النهائية منها والتي حازت قوة الشيء المقضي به؟

هل تعامل الإنسان العادي مع الأحكام القضائية هو التعامل نفسه بالنسبة للمحامي والحقوقي والأستاذ الجامعي الباحث في القانون؟

هل الأحكام القضائية بما فيها تلك التي حازت قوة الشيء المقضي به منزهة عن الخطأ والزلل ؟ هل كونها حازت قوة الشيء المقضي به جعلتها معصومة أو مقدسة؟

 

ماذا عن القاضي؟ هل هو عرضة للخطأ أو الغضب أو التأثير أو التعب أو الميل أو الهوى أو الضعف أو الخضوع.. أو غير ذلك، زيادة ونقصان كغيره من بني البشر ؟ أم هو منزه ومعصوم من كل ذلك؟

هل يجوز أن نعمم هذه الآفات على القضاة كلهم وننفي وجود قضاة شرفاء ونزهاء وشجعان ومستقيمين ؟

هل يجوز أن نشهد لجميع القضاة بالنزاهة والشرف والاستقامة والشجاعة دون استثناءات تذكر؟

 

في الحقيقة، ولكوني ما زلت بصدد التفكير الجدي في موضوع الكشف عن جزء من أوجه الحقيقة المتعلقة بملف توفيق وبعشرين، فلن يكون هذا الموضوع عبارة عن إجابة عن كل هذه الأسئلة، فلست هنا بصدد إعطاء أحكام قيمة عن القضاء والقضاة، إلا من زاوية احتمال وقوع الأحكام القضائية في أخطاء طبيعية تعالج بطرق الطعن القانونية والقضائية، وكذلك في إطار الدراسات والبحوث القانونية والفقهية.. فهنا لن أتكلم بلغة الحق والباطل، أو بلغة الظلم والعدل، فهذا الحكم سأتركه للمتتبع والقارئ والرأي العام يستنتج من ذلك ما يشاء ..

 

ولن يختلف اثنان في كون القاضي كغيره من البشر، وفي كل المجالات والتخصصات الأخرى معرض للخطأ، وهذا من صميم الطبيعة البشرية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائِينَ التوابون»، ولا سيما في القضاء، وهذا ما تبث تاريخيا حتى على مستوى أنبياء الله ورسله، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [سورة ص 21-24]، فهذا نبي الله داوود عليه السلام وقد امتحنه الله تعالى في هذه الحادثة التي وقعت له مع هذين الخصمين، وأما استغفاره عليه الصلاة والسلام فلأجل الذنب الصغير الذي وقع فيه وهو أنه تعجل بالحكم على الخصم الآخر قبل التثبت في الدعوى، وكان يجبُ عليه لما سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عما عنده فيها ولا يقضي عليه بالحكم قبل سؤاله، وقد تاب داود عليه السلام من ذلك الذنب الذي ليس فيه خسة ولا دناءة وغفر الله تعالى له هذا الذنب بنص القرءان الكريم قال الله تعالى: ﴿فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَئابٍ﴾ [سورة ص/25]. وقوله : ( ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) قال ابن أبي حاتم: أن إياس بن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى ، قال ما يبكيك؟ قال يا أبا سعيد ، بلغني أن القضاة : رجل اجتهد فأخطأ ، فهو في النار ، ورجل مال به الهوى فهو في النار ، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة . فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان – عليهما السلام – والأنبياء حُكمًا يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم ، قال الله تعالى : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ) فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود . ثم قال – يعني : الحسن – : إن الله اتخذ على الحكماء ثلاثا : لا يشترون به ثمنا قليلا ولا يتبعون فيه الهوى ، ولا يخشون فيه أحدا ، ثم تلا ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ] ) وقال : ( فلا تخشوا الناس واخشون ) [ المائدة : 44 ] ، وقال ( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) [ المائدة : 44 ].

 

وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء عن أُمِّ سَلَمةَ رضي اللَّه عنها: «أَنَّ رَسُول اللَّه ﷺ قَالَ: إِنَّمَا أَنَا بشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ؛ فأَقْضِي لَهُ بِنحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بحَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. فلم ينف الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه احتمال الوقوع في الخطأ بالنظر إلى ما يُعْرض عليه من أقوال ووقائع..

 

ولأن القاضي هو بشر كغيره من البشر، ونظرا لخطورة هذه المهمة العظيمة فقد حذره الرسول صلى الله عليه وسلم من أمور كثيرة، كَتَبَ أبو بَكْرَةَ إلى ابْنِهِ -وكانَ بسِجِسْتَانَ- بأَنْ لا تَقْضِيَ بيْنَ اثْنَيْنِ وأَنْتَ غَضْبَانُ؛ فإنِّي سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «لا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بيْنَ اثْنَيْنِ وهو غَضْبَانُ». وعن أبي بكر -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان». وهذا فيه تحصين للحكم من الزلل والانفعال وحماية حقوق الناس من الشطط والخروج عن العدل.. لذلك ابتكر العقل البشري مبدأ التقاضي على درجات، والقضاء الفردي والقضاء الجماعي في محاولة للتخفيف من الأخطاء وتحصين الأحكام ..

 

ونظرا لخطورة القضاء بين الناس فقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من أن يعرف القاضي الحق ويقضي بخلافه، أو أن يقضي بجهل دون التثبت والتأكد من الحق فيسقط في ظلم العباد، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «القضاة ثلاثةٌ قاضيانِ في النارِ وقاضٍ في الجنةِ فأما الذي في الجنةِ فرجلٌ عرفَ الحقّ فقضَى بهِ فهو فِي الجنةِ ورجلٌ عرفَ الحقَ فلم يقضِ به وجارَ في الحُكمِ فهو في النارِ ورجل لم يَعرِفِ الحق فقضَى للناسِ على جهلٍ فهو للنارِ»

 

وكثيرة هي الأحكام والقرارات القضائية سواء على مستوى المحاكم الابتدائية أو المحاكم الاستئنافية أو محكمة النقض كانت وما تزال موضوع دراسة وتحليل ونقد وجدل قانوني وفقهي، دون أن يُحْمل كل ذلك على أنه استخفاف أو استهزاء أو تنقيص من القضاة أو من تلك الأحكام والقرارات القضائية.. حتى وإن اكتسبت تلك الأحكام وحازت قوة وحجية الشيء المقضي به، فأحيانا يكون للفقه القانوني وجهة نظر أخرى قد تخالف ذلك، هذا فضلا عن أن بعض القضايا المتماثلة تعرف أحكاما مختلفة وأحيانا متناقضة حتى على مستوى المحاكم نفسها أو غرف محكمة النقض.

 

وكما سبق أن بينت، فإني لن أتهم أحدًا من القضاة على أنه اتبع الهوى أو خشي أحدًا من الناس، بل سأنظر في ذلك القرار وعلاقته بالقانون والوقائع، وفي المساطر القانونية التي انتهت وأدت إلى ذلك القرار الذي أدان توفيق بوعشرين ب 15 سنة سجنا، بعد استئناف القرار الذي أدانه من قبل ب 12 سنة سجنا، سأسعى – إن قررت ذلك – إلى تبيان ما استعصى فهمه أو كشفه، أو خفي عن الناس بكل تجرد وموضوعية ما أمكنني ذلك، بعيدا عن أي تحامل أو حسابات أخرى تجعل ما أكتب عرضة للاتهام والتشكيك.. وأترك في النهاية الحكم للرأي العام، وأن يستنتج من كل ذلك ما يشاء، من منطلق المسؤولية الملقاة على عاتقي، وباعتباري أحد أعضاء هيئة دفاع توفيق بوعشرين، وعلى رأس من يعرف عمق هذه القضية وظروفها ومساطرها وإجراءاتها منذ بدايتها إلى نهايتها .. فلا أذكر أنني تخلفت ولو لمرة واحدة عن كل الجلسات.. وأنا الوحيد الذي وفقني الله كي أرافع لمدة تزيد أن اثني عشر ساعة في الموضوع فقط، دون المرافعات المتعلقة بالدفوع الشكلية والطلبات الأولية وما رافق ذلك من صراعات وخصومات ونزاعات داخل الجلسات وخارجها أخذت أبعادًا أخرجتها أحيانا عن طبيعتها القانونية وأعراف وتقاليد المهنة..

 

وليس بدافع الخوف أو التشويق، فإني أصدق الجميع أنني ما زلت أفكر .. وأفكر .. وأن التفكير في هذا الموضوع يذهب النوم من عيني.. ويستغرق كل تفكيري وجهدي النفسي والعقلي .. الحقيقة معروفة .. ومؤلمة جدا .. والذي يزيد من ألمها هو كيف تقولها !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى