
أوراش الدار البيضاء المخاض العسير.. هكذا أخر ارتباك التسيير إنهاء مشاريع المدينة
المنصة – تحقيق
“الدار البيضاء هي مدينة التفاوتات الاجتماعية الصارخة، حيث تتعايش الفئات الغنية مع الطبقات الفقيرة. وهي مدينة الأبراج العالية وأحياء الصفيح. وهي مركز المال والأعمال والبؤس والبطالة وغيرها، فضلا عن النفايات والأوساخ التي تلوث بياضها وتشوه سمعتها.”
هذا الجزء من الخطاب الملكي الملقى خلال الجلسة الأولى من السنة التشريعية الثالثة للولاية التشريعية التاسعة، بتاريخ 11 أكتوبر 2013، كان بمثابة تقريع وتنبيه لمسؤولي أكبر مدن المغرب مساحة وأكثرها سكانا وإحدى أهم ركائزه الاقتصادية. الخطاب اعتبر أيضا استنهاضا للتنمية في العاصمة الاقتصادية للمملكة ودعوة صريحة لتجاوز الأعطاب والاختلالات التي شابت عددا من المشاريع والأوراش.
سنتان اثنتان بعد ذلك، توجت تلك الدعوة بإطلاق منطقة الدار البيضاء الكبرى الحضرية برنامجها الإنمائي الاستراتيجي الضخم للفترة ما بين 2015-2020، والذي يهدف إلى تحسين نوعية ظروف حياة السكان، وتدعيم التنقل على المستوى الجهوي، وتعزيز الجاذبية الاقتصادية وتحسين مناخ الأعمال، وذلك قصد تعزيز إشعاعها على المستويات الوطنية والقارية والدولية، وذلك عبر توقيع اتفاقيات إنجاز مشاريع أمام الملك في الـ26 من سبتمبر 2014 قدر غلافها المالي بـ33.6 مليار درهم.
اليوم وبعد مرور أزيد من أربع سنوات على توقيع تلك الاتفاقيات يعرف عدد من المشاريع الواردة ضمنها تعثرا وتأخرا في الانجاز كبيرين، إذ تجاوز كثير منها السقف الزمني المحدد لإنهائه، وهو ما أوقع المسؤولين غير ما مرة في العنت وعرض بعضهم للعقاب كوالي جهة الدار البيضاء-سطات السابق عبد الكبير زاهود الذي أعفي من منصبه بداية السنة الجارية وهو الذي لم يكن مضى على تعيينه سوى أقل من سنتين.
بعد مرور أزيد من أربع سنوات على انطلاق تلك المشاريع، يعرف عدد منها اليوم تعثرا وتأخرا في الانجاز.
زمن مُهدر
حول تفاصيل القطاعات التي استهدفها البرنامج التنموي وكلفتها المالية، نجد قطاع التنقل وتحسين المواصلات العامة بمبلغ إجمالي قدره 16.000 مليون درهم، وتحسين شبكة الطرق والبنى التحتية وتحسين ظروف حركة السير بكلفة 10.899 مليون درهم، فإعادة هيكلة الأحياء سيئة التجهيز بغلاف مالي ناهز الـ2.016 مليون درهم، ثم الارتقاء الاجتماعي لمنطقة الدار البيضاء الكبرى وخصص له مبلغ 1.800 مليون درهم، وكذا اتفاقية تروم تطوير البنية التحتية الثقافية والرياضية والترفيهية بكلفة 1.130 مليون درهم إلى جانب بناء المرافق العامة المخطط لها كجزء من عمليات مكافحة الإسكان الهش وخصص لها مبلغ 750 مليون درهم، كما تحدث البرنامج عن تهيئة الشريط الساحلي الذي رصد له 700 مليون درهم والتسويق والترويج المحليين بقيمة إجمالية بلغت الـ300 مليون درهم، هذا فضلا عن حماية وتثمين تراث الدار البيضاء الكبرى ومواءمة نطاق توزيع المياه والكهرباء وإدارة الصرف الصحي.

بناء على معطيات استقتها “المنصة24” من بعض مهندسي الشركات المكلفة بإنجاز المشاريع، فإن على رأس تأخر انتهاء الأشغال وتجاوزها السقف الزمني المحدد في الاتفاقيات التي وقعت أمام الملك، بدايتها متأخرة من الأصل، ومثال ذلك أشغال إعادة تهيئة “كورنيش” عين الذئاب، بغلاف مالي قدر بـ100 مليون درهم، والذي أعطى الملك انطلاقته في 20 دجنبر سنة 2016 إلا أن أشغاله لم تنطلق إلا في يناير من العام الماضي، وهو المعلن عنه على الموقع الرسمي لشركة الدار البيضاء للتهيئة، هذا الارتباك حسب مصادر من مجلس مدينة الدار البيضاء، “كان دون تقديم أي توضيحات أو مبررات، الأمر الذي يؤكد هيمنة العشوائية في التدبير واللامبالاة بحقوق المواطنين”.
حسب المصادر ذاتها، فمن المشاريع التي خالفت مدة الإنجاز وارتفعت تكلفتها فجأة مشروع إعادة تأهيل مجسم “الكرة الأرضية” وممرها التحت أرضي، فقد أعطيت انطلاقته سنة 2016 وحددت كلفته في 14 مليون درهم، إلا أن الإنطلاقة أجلت لفبراير سنة 2018 كما ارتفعت معه كلفة إعادة التأهيل إلى 30 مليون درهم، وقدر الانتهاء من إنجازه في دجنبر من السنة المقبلة، علما أن نسبة التقدم في إنجاز المشروع أقل من 50%.

مشروع آخر سلم شهر ماي الأخير بعد أن عرف مدة سنة من التأخير، هو تهيئة المنتزه البحري لمسجد الحسن الثاني الذي يعد ثمرة شراكة بين وزارة الداخلية، وولاية جهة الدار البيضاء- سطات، وعمالة مقاطعات الدار البيضاء- أنفا، وجماعة الدار البيضاء وشركة الدار البيضاء للتهيئة ، وقد أعطيت انطلاقة أشغاله من طرف الملك في دجنبر 2016، و كان من المنتظر أن تنتهي أشغاله في فبراير 2018 حسب ما أعلن أمام الملك، المشروع كلف ميزانية كبيرة قدرت بـ200 مليون درهم.
من أسباب تأخر عدد من المشاريع أيضا غياب دراسات علمية دقيقة، مما يؤدي إلى فشلها وهدر مالها والاضطرار إلى إعادتها من جديد، مثال ذلك نخيل الشريط الساحلي عين الذئاب الذي مات بعد أقل من 3 أشهر على غرسه، والسبب كونه مستورد من منطقة زاكورة التي تختلف بيئتها الجافة اختلافا كبيرا عن بيئة مدينة الدار البيضاء الرطبة، الأمر الذي اضطر المسؤولين إلى إنفاق ضعف المبلغ المخصص للمشروع.

من المشاريع التي عرفت تعثرا أيضا موقف سيارات تحت ساحة الراشدي بمبلغ 130 مليون درهم، وسبب هذا التعثر حسب مصادر من داخل المجلس أن الأرض ليست ملكا للدولة وهو ما يعني أيضا وفق المصادر “تبديدا مجانيا للمال العام”.
الحسين نصر الله رئيس لجنة التعمير و إعداد التراب و البيئة بمجلس جماعة مدينة الدار البيضاء يرى أن انعدام الكفاءة لدى أغلبية المجلس أهم سبب لتعثر تلك المشاريع، ويفسر الكفاءة بحسن التسيير والسهر على جودة التدبير والتمسك بالاختصاصات القانونية التي تمكن من الرقابة والمحاسبة عوض التنازل المضطرد عن الاختصاصات لصالح شركات التنمية المحلية، مفصلا ذلك في حديثه لـ”المنصة24″بقوله “كي تنجح هذه المشاريع، لابد من إرادة ورؤية واستراتيجية وتوافر الإمكانات المالية، ثم الكفاءة، كل تلك العناصر حاضرة اليوم في حالة المشاريع التي نحن بصدد الحديث عنها، إلا عنصر الكفاءة، وهو ما تسبب في عدد من الاختلالات والأعطاب، فالمجلس اليوم مدعوم بإرادة ملكية كما يتمتع بصلاحيات لم يتمتع بها أي مجلس من قبل، والدليل أن لدينا الاتفاقيات ولدينا التصاميم، أما بالنسبة للتمويل فالدولة ساهمت بتسعين في المائة واقترض المجلس عشرة بالمائة من البنك الدولي بضمان من الدولة رغم إمكاناته التي كان يمكن بواسطتها تدبر هذا المبلغ المقترض”.
شركات مُتهمة
من جهة أخرى يرى أعضاء داخل أغلبية المجلس نفسها أن هناك علاقة مباشرة بين شركات التنمية المحلية وتأخر هذه المشاريع، وذلك بزعمهم أن قيادة المجلس تنازلت عن اختصاصها بشكل مطلق وبمحض إرادتها لصالح تلك الشركات التي يفترض أن تكون تحت سلطة ووصاية المجلس الذي أنشأها، في الوقت الذي يفترض أن تضم مجالس إدارة شركات التنمية المحلية ممثلين عن المجلس الجماعي يناط بهم إعداد تقارير دورية حول مدى تقدم الأشغال وجرد الاختلالات التي تعتريها، كما تلزم المؤسسة المنتخبة بعقد اجتماعات منتظمة مع الشركات هدفها التقييم والتقويم، في هذا الصدد يؤكد نصر الله مراسلته كتابيا رئاسة المجلس مرات عديدة قصد الحصول على تقارير تلك الاجتماعات دون الحصول على جواب، وهذا حسب المتحدث “تعتيم متعمد ومقصود يواري طبيعة الأعطاب التي تؤجل استكمال تلك المشاريع”.
الشركة المكلفة لم تنجز مشروع قبة الكرة الأرضية كما يجب وشاب عملها تقصير مما جعل المديرة تنهي مهامها ويحول المشروع إلى شركة أخرى.
من بين أهم الأسباب أيضا وراء تجاوز المشاريع المسطرة سقفها الزمني المحدد هو تكديس كثير منها في يد شركة واحدة مما يعني بالضرورة تمديدا لمدة الانتهاء من إنجازها، خاصة أمام اكتفاء تلك الشركات بمواردها البشرية واللوجستية الأصلية، ونموذج ذلك حسب الوثائق الرسمية استحواذ الشركة المغربية المتخصصة في البناء والاشغال العمومية؛ “SGTM”، على صفقات تهييء النافورة الجديدة، والمسرح الكبير، والشريط الساحلي، إضافة إلى وكالة ميناء “كازا بور”.
من جانب آخر، يرى الحسين نصر الله أن الاتفاق مع شركات التنمية المحلية ومنحها المشاريع مباشرة “يغلق الباب أمام شركات أخرى ويضرب مبدأ التنافسية الشريفة” علما أن تلك الشركات حسب المتحدث تأخذ نصيبها الربحي لكنها بدورها تجلب شركات أخرى لإنجاز المشاريع، “فلماذا لا يفتح المجلس طلبات عروض ويتجنب كل هذا؟” يتساءل المسؤول الجماعي قبل أن يربط ما سبق بـ”انعدام الالتزام والتسبب في تأخر الأوراش”.

من المشاكل المترتبة عن تعثر المشاريع والتي كانت موضوع نقاش حاد خلال دورة مجلس مدينة الدار البيضاء الأخيرة غياب مؤسسات المراقبة والمحاسبة لتحديد مكامن النقص والخلل، على رأسها المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة لوزارة الداخلية، وحسب المتدخلين فبالنظر إلى المبالغ المالية الضخمة ورؤوس الأموال الكبيرة للشركات وعلى رأسها شركة الدار البيضاء للتهيئة بمبلغ 1400 مليار سنتيم، وجب الافتحاص و القيام بتقييم دوري.
رئيس لجنة التعمير الذي سبق أن أنجز في إطار بحثه الأكاديمي دراسة حول عمل شركات التنمية المحلية، تساءل عن “الوضعية المالية للشركات المشرفة على مشاريع الدار البيضاء، وعن المبالغ التي يتقاضاها مسؤولوها و الامتيازات التي يحظون بها” مستغربا في الآن ذاته “التكتم المريب حول مخالفتها للقانون الذي يلزمها بإحالة تقارير اجتماعات مجالس إدارتها في أجل خمسة عشر يوما، على المجلس، و ليس على الرئيس أو المكتب كما تفعل، في حين لم يسبق للمجلس نهائيا أن توصل بها”.
رأي رسمي: المشاريع ناجحة
للحصول على توضيحات الطرف الآخر حاولنا التواصل مع شركة الدار البيضاء للتنمية لكن دون جدوى، عبد المالك الكحيلي نائب لعمدة الدار البيضاء المكلف بالشؤون الثقافية والاجتماعية، نفى من جهته أي تعثر وربط ما سماها “الإدعاءات غير الصحيحة” بـ”الانتقادات التقليدية للمعارضة”، مشيرا إلى أن المشاريع الكبرى المتعلقة أساسا بالبنية التحتية المدرجة ضمن الاتفاقيات المذكورة عرفت نجاحا كبيرا إذ فتح عدد من الأنفاق التحت أرضية كما تم مؤخرا تدشين قنطرة سيدي معروف، إلى جانب الانتهاء من مشروع مارينا مبدئيا، وهو الآن في انتظار إعداد مشروع تأمينه فقط”.

الكحيلي الذي يشغل أيضا رئيس مجلس مقاطعة عين الشق ساق نماذج لما يراها مظاهر نجاح مجلس مدينة الدار البيضاء فتحدث عن حديقة الجامعة العربية وحديقة عين السبع وقال إنهما “عرفتا تهيئة منقطعة النظير” كما وصف إنجاز الخط الثاني من الترامواي بـ”النجاح الكبير الذي سهل عملية التنقل في مدينة الدار البيضاء”.
في مقابل ذلك وبعد نفيه المجمل لأي تعثرات، عاد نائب عمدة مجلس المدينة ليقر بوجود “بعض النقائص والاختلالات التي يتم التعامل معها بكل جدية ومسؤولية” حسب وصفه، متحججا بكون “النقص من سمات البشر والكمال لله” وساق نموذجاً التأخر الذي عرفته قبة “الكرة الأرضية” وسط المدينة فذكر أن “الشركة المكلفة لم تنجز المشروع كما يجب وشاب عملها تقصير كبير” مضيفا أن “الخطأ عولج وصوب بجعل مديرة الشركة تنهي مهامه وتحويل المشروع إلى شركة أخرى”.
الكحيلي يتحدث عن شركة “الدار البيضاء للتراث” والتي نزع منها المجلس الجماعي خلال دورة استثنائية، ثلاثة منشآت تاريخية في المدينة كانت تشرف على إنجازها وتدبيرها ومنحا لشركة “الدار البيضاء للتهيئة”، ويتعلق الأمر بساحة الكرة الأرضية، وكنيسة القلب المقدس، والسوق المركزي.
عبد العزيز العماري، عمدة المدينة، أوضح خلال تلك الدورة أن شركة “كارا باتريموان” تعرف مشاكل في التدبير وتعتريها اختلالات في الإشراف على جملة من المشاريع.

وبغض النظر عن تراشق المسؤولين الكلامي فإن المعطيات الواقعية تدل بوضوح على وجود تعثرات لمشاريع كبرى رصدت لها ميزانية ضخمة وحددت لانتهائها أسقف زمنية لم تحترم، ولم يتم الكشف لحد اللحظة عن أسباب ذلك كما لم يُعرف عن أي جهة رسمية مراقبة أو محاسبة شركات تتصرف في الملايير من أموال دافعي الضرائب، نموذج آخر على ذلك فضلا عما ذكر مشروع آخر أثار الكثير من الجدل هو تحديث مركب محمد الخامس، والذي تم ترقيعه مرات متعددة بمبغ وصل إلى 200 مليون درهم، دون اندثار عيوبه التي لا تنتهي والتي تناقلها المغاربة عبر مواقع التواصل الإجتماعي، فرغم المدة الزمنية الكبيرة التي منحت للشركة قصد ترميم البنية الإسمنتية للمدرجات، و تثبيت مقاعد جديدة وإعادة تهيئ القاعة المخصصة للندوات وكذا مستودعات اللاعبين، إضافة إلى إصلاح الإنارة داخل وخارج الملعب، و تهيئ جنبات المركب الرياضي، والقيام بإصلاحات أخرى، كانت الأمطار كافية لكشف عورة الملعب وفضح عيوب كثيرة على عدة مستويات، الأمر الذي أثار غضب مشجعي الفريقين البيضاويين الوداد الرياضي والرجاء البيضاوي وجعلهم يبثون فيديوهات يسخرون فيها من الأمر وينتقدونه.
لعل من بين المشاريع التي لم تحقق أي تقدم فظلت نسبة تقدم أشغالها حسب الموقع الرسمي للشركة المكلفة 0% مشروع تجديد كورنيش المحمدية، الذي سيكلف ميزانية قدرها 200 مليون درهم، يفترض أن تكون انطلقت بعد نهاية موسم الاصطياف 2014-2015، هذا الورش يندرج أيضا في إطار تطبيق الاتفاقية الموقعة أمام الملك خلال تقديم مخطط تنمية الدر البيضاء الكبرى 2015-2020، في شتنبر سنة 2014 ويشمل أساسا شاطئ ميرامار الممتد على مسافة نحو كيلومتر.