أزداد: بين الخصاص والطواحين الإدارية ينهار الطبيب النزيه بالمستشفى العمومي

وداد أزداد: طبيبة بالقطاع العام وفاعلة نقابية
طبيبة تتقافز متوجعة على قدم واحدة في أرجاء المصلحة التي تعمل فيها بالاستعانة بعكاز لا يحمي ركبتها المصابة من الصدمات ولن يقيها من تبعات تهورها على الرباط الجانبي الممزق لذات المفصل.. بينما ترقد شهادة طبية عقيمة في جيب وزرتها، قامت بإلغائها ذاتيا حرصا على المصلحة العامة رغم نصائح الزملاء الدكاترة المتكررة التي تقضي بالراحة التامة..
فعندما لا تتوفر سوى طبيبتا أشعة رسميتان في المستشفى الإقليمي مقابل حوالي 400.000 نسمة، فأي استفادة من تلك الشهادة قد تؤدي لانقطاع حاد لسيرورة العمل، ولنزيف في الأرواح في إقليم يعد بؤرة للسرطان ويفتقر بشدة للقطاع الخاص، ويكاد يعتبر فيه المستشفى العمومي المركزي الملجأ الأوحد والوحيد.. وبالتالي فما بين ركبة محطمة وصحة المئات فالأولوية واضحة للأسف..
لا يتعلق الأمر هنا ببطولة وهمية ولا تضحية معزولة، وإنما بال”روتين اليومي” لأغلب الأطباء النزهاء بالقطاع العام الذين لديهم غيرة على البلاد، رغم كل الاتهامات التي تطال وطنيتهم عندما يفرون للقطاع الخاص أو يهاجرون نحو دول أخرى عندما يتجاوزون كل الحدود الإنسانية المعقولة ويعجزون عن الاستمرار.
نعم فلست بأفضل من الزميلة جراحة الأطفال الوحيدة التي أصيبت بالتواء حاد في الكاحل بعدما يزيد عن 15 يوما من العمل المتواصل والعمليات المعقدة المتتالية من دون انقطاع ليلا ونهارا، حتى لم تعد تفرق بين اليمين واليسار واختل التوازن والمنطق، فاضطرت أن تجري عمليتين مستعجلتين وهي جالسة تئن من الألم وأكياس الثلج تحيط بمفصلها المتورم.
ولست أفضل من طبيبة الأشعة التي انهارت مغشيا عليها بسبب الاحتراق المهني بعد أشهر من العمل وفق وتيرة لاإنسانية، لتستفيق على سرير في المستعجلات تحيط بها نظرات الزملاء المشفقة، قبل أن تصطدم برفض الإدارة قبول شهادتها الطبية رغم أنها لا تقوى على الوقوف.. وهي التي لم تطلب واحدة طيلة 5 سنوات حتى عندما كانت تفحص المرضى وهي تكاد تحتضر وتحس بآلام شبيهة بالذبحة الصدرية..
آااااه نسيت أن أخبركم بأن هذه الطبيبة المستهدفة لم تكن سوى شخصي المتواضع.. وأن الاستهداف والانتقام والتربص وتصيد العثرات اللاإرادية يطال كل من يصدح بالحق ويرفض أن يسجد للإدارة المستبدة..
ثم إنني لست أفضل حالا من طبيب السكري والغدد الوحيد الذي يعمل باستمرار حتى في الليل والويكاندات والعطل.. ولا أطباء الكلي الذي نفذوا بجلدهم سابقا بعدما لم يقووا على الاحتمال.. ولا اختصاصي الكلي الذي عوضهم والذي قدم وهو شعلة من الحماس أشفق عليها من بعيد مخافة أن تنطفئ رويدا رويدا وهو يبدو كاليتيم يحاول أن يشق الظلام المحيط به.. ولا أطباء الإنعاش والمستعجلات والأمراض الصدرية القلائل الذين عمقت الجائحة من مصابهم.. إلخ…
والأدهى والأمر أننا في إقليم يعد أفضل حالا بكثير من أقاليم أخرى عدة اختفت فيها اختصاصات حيوية بالكامل.. أو قد تجد فيها طبيبا وحيدا يشرف على عدة مدن كبرى في عبث أصبحنا نشم رائحته المنفرة من بعيد، ولكنه لا زال يخفى على المواطن الذي يأبى أن يشغل حواسه ماعدا فمه؛ عندما يصلب ويجلد الأطباء المرابطين المجاهدين المتبقين وهم قلة قليلة؛ إلا من رحم ربك..
نحن نعيش الآن نتيجة سياسة التقشف في فتح المناصب المالية الطبية منذ حوالي 10 سنوات من طرف من كان يلقب ب”أحسن وزير للصحة في تاريخ المغرب”.. لقد انقرض الأطباء في القطاع العام، لدرجة أن المستشفيات الحديثة البناء لا يتم تدشينها أو يتم إغلاقها مباشرة بعد افتتاحها حتى تصدأ معداتها، فمن يعتقد أن المؤسسات الصحية مجرد حيطان وتجهيزات وينسى الموارد البشرية فهو لا يعي شيئا..
والمؤسف أن الأطباء الحريصين على العمل في المستشفى العمومي مثلي (رغم كل الفرص المتاحة في الخارج والقطاع الخاص)، أصبحوا ينهارون ويستسلمون تباعا لأن اليد الواحدة لا تصفق..
وإذا كان “دون كيشوت” حارب طواحين الهواء، فنحن يجب أن نواجه الطواحين الإدارية وأتباعها وخستها ومكرها وتجسسها وفخاخها بالموازاة مما يشكل عبئا إضافيا.. وأن نلعب في نفس الوقت دور عدة أطباء خارقين ورجال أمن ومساعدات اجتماعيات وأطباء نفسيين و.. و…، كل ذلك مختزلا في نفس الشخص.. فنحن حاضرون في كل مكان عندما يرتبط الأمر بالواجبات، ونغيب تماما من المعادلة عندما يتعلق الأمر بالحقوق..
كما علينا ك”شماعات” و”حيطان قصيرة” أن نتحمل الإساءة والتجريح والاتهامات من بعض المواطنين الذين لا يجدون غيرنا لتفريغ غضبهم وتنفيس حنقهم، والذين يحملوننا مغبة فشل منظومة صحية بكاملها.. وذلك بصدور ينتظر منها أن تكون رحبة متفهمة وإن ضاق قفصها الصدري حتى كاد ينفجر بفعل الضغوطات.
إيوا الله يشوف من حالنا ويخرج سربيسنا على خير.. والله يشافينا بجوج أنا والقطاع العام..